يفيض كتاب "حسن في كل مكان" عذوبة ورمزية يصف بها الفنان الراحل حسن حوراني (1974-2003) فلسطين ورحلته مع شخصياتها وكائناتها وأمكنتها كمسافر حالم لا يخاف الوحوش، وينام على ورق الورد أو في حضن مدينة القباب، ويركب جسراً معلقاً بين بيوت الزجاج، ويحرر النجوم، ويغلق عينيه وقت السفر، لأنه يرى كل ما يحب بالقلب. غيّبه بحر يافا، "كان ذاهباً نحو البحر، ليختفي تحت الأفق، .. فرفعت الموجة نفسها وشدت على مائها كي ترفع المسافر نحو القمر. ولأنه حسن يحب الليل والسفر، فقد حمل القمر الصغير ومضى". طُبعت المخطوطات في كتاب من إنتاج مؤسسة عبدالمحسن قطّان عام 2004.
عام 2008، تعرفت المخرجة ميس دروزة على الكتاب وشغفت بـ "حسن". قررت أن تلاقيه عند أبعد مكان في العالم (بحر فلسطين)، في رحلة فيلم وثائقي عنوانه "حبيبي بيستناني عند البحر". تعبر المخرجة الفلسطينية الأردنية الحدود لتتعرف على وطنها التي لم تره من قبل، وهي تحمل صورة والدتها (تبثها الحنين وتذكرها أن البحر عالم خاص بحاله ما حدا بيقدر يأثر عليه)، وصورة حسن (عيناه شبه مغلقتان)، وصورة لبحر يافا التقطت عام 1947 اشترتها من دمشق. و"لأن البحر كبير ولا علامة فيه ترشد العابرين"، تحط المخرجة كل مرة عند فلسطينيين يروون جزءاً من الرواية، بينما ترى هي فيهم شيئاً من حسن.
[صورة من الفيلم]
تعيش الناس في أوطانها بينما يعيش وطن الفلسطينيين فيهم (هكذا علمونا منذ الصغر)، يقول محمد الشاب الفلسطيني الذي يعيش في مخيم اليرموك بدمشق، وهو يختنق بالقيود التي تصنعها الغربة والأوطان والأديان والأنظمة والحدود. حَلم محمد بالسفر طلباً لظروف عيش أفضل، فحملته الأحداث الأخيرة إلى مخيم آخر للاجئين في السويد. لكل شخصية في فيلم دروزة شخصية تقابلها في "حسن في كل مكان"، محمد الذي طلب من دروزة أن ترسل لأهله في الشام صور عرسه الذي كان آخر عرس في المخيم، هو نخلة البحر المبعدة، التي حملتها الريح الغريبة من واحة النخل إلى آخر البحر، فأخذت تسافر إلى كل مكان وتنمو مع مرور الزمن. وأوصت المسافر: "وحين تصل إلى الصحراء، رُد عليها السلام ستسألك من أين جئت؟ قل لها جئت من البحر. ستهديك هناك غيمة للسفر ونجمة تدلك نحو الطريق، وعندما تصل سترى في واحة النخل أهلي، بعد أن تشرب ماءهم أخبرهم عن سرك معي، ثم ازرع التمر هناك قرب المكان الذي ولدت فيه".
تقول المخرجة التي تقيم في عمّان أن كل ما تحلم به كان على بعد ثلاث دقائق من الحدود: الوطن والحب والبحر وعروسه. بعدما تعبر الجسر إلى فلسطين، تشاهد أرضاً سابحة بين الغمام. ورجل يجمع آثار متفجرات فرقت أهالي حقل زيتون لم يبق من أشجاره سوى جذوع مقطوعة. وتداعب بالكاميرا عنزات صغيرة. يخيم الجمال على صور الفيلم برغم قسوة الأمكنة التي يصورها: الألوان عذبة والصور متفردة بتناسق خاص، والشخصيات شجاعة وعنيدة رغم أنها جريحة.
تصل إلى مدينة القباب، يجيب سكانها أن الشهداء لا يُنسوْا. كذلك يشرح مهند وعمار وسامر كيف يذرعون شوارع القدس دون أن تخيفهم تهديدات المستوطنين. يصفون كيف يصحون على ذات الحلم الذي ينامون عليه: أن يشهدوا خلاص المدينة من المحتل. جل ما يريعهم أن يتأخر هذا اليوم لتزيحهم عن الطريق جماهير الثورة الشابة. يعرفون أنهم ملوك القدس وأمراؤها إذا ما خلت المدينة ساعة في جُنح الظلام.
تحط في بيت بالناصرة، تصوّر مهداً رسمته الشمس بالنور على فسحة تتوسطها طفلة. ينسل والدها إلى جانبها ليداعبها في وقت طويل من الصمت. يرفض نائل أن يكون الحلم أن تزرع بيارة برتقال، بل أن تملك أن تعيش حياة حرة كباقي البشر. سيصعب أن يشرح لابنته القصة كاملة، وستتعلم زوجته ليلى أن لا تستعطف الجنود على الحواجز. ترى ليلى أن دولة الاحتلال قد هُزمت ولم تعد وعد الفكرة الطوباوية من القرن التاسع عشر. تحكي كيف تجرحت فلسطين وتشتت، وتأمل أن يرسمها موزاييك من قصص أولئك الذين يجهدون لتخليصها من أذاها. ربما هما الديناصور الوحيد بلا وطن الذي تعب من المحاربة واسترضاه حسن فزوجه ديناصورة أثناها حسن عن الرحيل. تهرب منهما الكلمات عندما تسأل المخرجة: ما الذي يدفعكما كل صباح للمضي قدماً؟
[مشاهد من فيلم "حبيبي بيستناني عند البحر"]
في مخيم العروب يسكن حازم، الشاب الذي يضع قدميه كل غروب في طست ماء على سطح منزله بينما تبثه سماعتان صوت البحر. يروي حازم أن الجدار يحجز ما بينه والبحر، وما بين الرجل وامرأته، وبين الحلم والحقيقة. يأخذ حازم الأكورديون ويتمشى مع المسافرة جوار الجدار، بينما ننصت علّنا نسمع ما ينفذ عبر الشقوق. يتخلل الفيلم فواصل تقرأها المخرجة من نصوص حسن، ومن نصوص ورسوم صنعتها بنفسها، تخط بها مسار الرحلة إلى عروس البحر، الاسم الذي رمزت به إلى أمها، وفلسطين، وعلاقتها بحسن الذي لم تره.
عندما تسأل في يافا عن عروس البحر وبيارات البرتقال، يجيب رجل بأنهم لم يعودوا يسمعوا بمثل هذه النكات. بينما يتشبث آخر بها، يناديها ليخبرها كيف كانت يافا لما نشأ في شارع عروس البحر، وكيف يعلم أنها لا زالت هناك. يرشدها إلى قمة صخرة يقفز من عليها فتيان يتسابقون في شق الماء بأجسادهم، وفتيات ثلاث يمسكن قرص الشمس بأيديهن. وتكتمل رحلة الفيلم عندما تتطابق صورة البحر بصورته التي رحلت إلى ومن دمشق، التي أحيطت اليوم بحدود جديدة.
"وبينما كان المسافر يحمل قنديله كعادته ليحرس السمك، ويتفقد البحر لعل أحداً ضل طريقه فيه بعد أن فقد الاتجاه، شاهد وسط البحر، وعبر غشاء الماء الرقيق، وجه سمكة جميلة. قادته السمكة حتى اقتربت به من قصر بعيد له برج طويل. كان القصر يرتفع على أعمدة رقيقة، نصفه في الماء والنصف الآخر في الهواء، يعلوه في قمة البرج ضوء، ومن اتجاهاته الأربعة علقت فوانيس صغيرة تضيء سطح الماء وترشد الغريب."